أسماء عديدة تؤثث فضاءنا الثقافي والفكري، فرضت وجودها بشكل لافت في منظومتنا، وبلورة حضورها بفاعلية ملحوظة في الساحة الثقافية والفكرية، بيد أننا كقراء لا نعرف إلا النزر القليل عنها وعن الظروف العامة والخاصة التي أبدعت فيها، وكذا الأجواء المحيطة بعملية الإبداع باعتبارها ـ كما يعتقد الكثير من المبدعين ـ تمثل ولادة جديدة ومختلفة للكاتب أيا كان اتجاهه الأدبي.
محمد خير الدين أو الطائر الأزرق ما هو إلا واحدا من تلك الأسماء، وبامتياز أيضا، أعطى الكثير من الإنتاجات في مجالات متنوعة: الرواية، الشعر، الصحافة، التحليل، النقد التشكيلي…) فكان بذلك الكاتب العبقري والنابغة. ولما رحل عنا، بعد مرض عضال، سنة 1995، كتب الكثيرون عنه، واهتمت به عدة صحف ومجلات عن طريق نشرها لملفات حوله ضمت شهادات أصدقائه من المثقفين والكتاب وغير الكتاب، إلى جانب نشر جزء من إبداعاته في بعض المنابر قصد الاستشهاد بقوة قلمه، وعقدت حوله لقاءات ثقافية، فكرية، نقدية وتكريمية، ونخص هنا بالذكر اللقاء المنظم من قبل الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي في أكادير سنة 1994، ولقاء الجمعية المغربية لمدرسي اللغة الفرنسية، دون إغفال اللقاءات المنظمة من قبل المعاهد الثقافية الفرنسية المعتمدة ببلادنا، وتناولت مجمل هذه الملتقيات التجربة الأدبية لمحمد خير الدين كتجربة فريدة من نوعها. والمهم في ذلك كله، أنه تأسست جمعية ثقافية وطنية تحمل اسمه: "جمعية محمد خير الدين للثقافة والتنمية"، إطار جمعوي يستهدف تكريمه وهي ـ في حدود علمنا ـ الجمعية المغربية الوحيدة التي تحمل اسم كاتب مغربي معاصر يبدع باللغة الفرنسية.
إبداعاته المتنوعة، كانت أيضا مواضيع لأطروحات جامعية هنا وهناك، تناولت المحاور التي تطرق إليها في كتاباته.
تنوع وتعدد هذه الأنشطة المرتبطة بالفقيد الأمازيغي محمد خير الدين، تجعل أي واحد منا يستفسر ويتساءل عن مغزى هذا الاهتمام وهذا الاحتفاء وعن الأسرار التي قد تكون كامنة وراء ذلك؟
ثمة سلوك / قاعدة تؤطر حاليا أنشطة غالبية النخبة المثقفة ببلادنا، هي أن الاحتفاء وتكريم المثقفين والكتاب والأدباء، لا يكون مجسدا على أرض الواقع إلا بعد غيابهم، انتقالهم إلى عالم الموت. هذه الظاهرة، ورغم الغموض الذي يكتنفها ويمكن أن يثار حولها، لها بعض الإيجابيات، والمتمثلة أساسا في أنها تكشف عن الجوانب التي يمكن أن تكون خفية طيلة أيام الراحل، وربما فإن جزء من الاهتمام الموجه لخير الدين بعد رحيله المباغت يندرج حتما في إطار هذا السلوك.
إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها حول خير الدين: كونه كاتبا عصاميا كون نفسه بنفسه بواسطة قراءاته وأسفاره وصداقاته لكبار المفكرين العالميين في مستوى الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر والكاتبة الثائرة سيمون دوبوفوار. ومن بين الحقائق التي نكتشفها لديه، أنه كان من الكتاب القلائل الذين استطاعوا تأسيس اتجاه خاص بهم في الأدب عامة وفي فن الرواية بصفة خاصة، فقد وصفت روايته الأولى "أكادير" الصادرة عن دار النشر الفرنسية لوسوي سنة 1967، بأنها رواية شعرية Un roman poétique، وهو المصطلح غير المسبوق الذي اعتبر جديدا في معجم السرد الأدبي. ومن الخاصيات المميزة لإبداع محمد خير الدين وشخصيته نفسها أنه لم يكن أبدا كاتبا عاديا كأيها الكتاب. واضح أنه كاتب مزعج للقارئ، وذلك من خلال استعماله للغة إبداعية جد قوية تصعب في بعض الأحيان حتى على النخبة من المثقفين الفرنكفونيين.
رأى محمد خير الدين النور بالجنوب المغربي في قرية أمازيغية تدعى azvru n wadvu ، بمنطقة تافراوت في أحد أيام سنة 1941، وقد خص الكاتب قريته هذه بتكريم خاص في روايته .Légende et vie d’Agounchich ومن المؤكد أن كاتبنا ولج عالم الإبداع والكتابة في سن مبكرة، لأن المتانة والقوة الإبداعيتين والدقة في الوصف المتوفرة في كتبه، كلها معايير تطلعنا أن صاحبها ذو تجربة ثقيلة وباع طويل في المجال الإبداعي، ليس هذا بغريب من كاتب كخير الدين تمكن من اللغة الفرنسية واحتك بأعمال أشهر رموزها مثل: بودلير، ملارمي، رامبو… هنا بالذات سنتوقف عند شهادة لصديقه الروائي المغربي ذي الأصل اليهودي صاحب «المسار الثابت»، إدمون عمران المليح، الذي يقول عنه: «صعب جدا الحديث عن تجربة خير الدين الإبداعية، لقد باشر مغامرة الكتابة وهو ما يزال مراهقا، وكتب أشعارا رائعة تبرز القدرة الإبداعية التي يتوفر عليها، وأغلبها منشور بالصفحة الأدبية لجريدة La vigie marocaine ، وقد قيل زمن صدور روايته الأولى «أكادير» أنها لا تنبئ فقط عن ميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية وإنما عن ميلاد شاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة».
ويندهش المطلع على أعمال محمد خير الدين بتوظيفه للمكونات الثقافية الأمازيغية وللشخصيات التاريخية الأمازيغية التي تركت بصماتها واضحة على صفحات التاريخ، أمثال: تيهيا، كسيلة، الحاج بلعيد، عبد الكريم الخطابي… كذلك استعماله المكثف لمعجم أمازيغي داخل نصوص بالفرنسية من خلال كلمات أضحت تائهة في دروب النسيان، هكذا يبرز محمد خير الدين فعالية ثقافته الأم: الأمازيغية، في تكوين شخصيته كمبدع فوق العادة. يقول عنه الروائي والشاعر المغربي الطاهر بن جلون: «يتميز محمد خير الدين بلغته الجميلة الممتدة جذورها في الثقافة الأمازيغية، ويظهر ذلك بكل جلاء في إبداعاته من زاوية تطرقه لنظم عيش إيمازيغن وأسمائهم، رموزهم، تراثهم…وبالرغم من كون كتاباته كانت كلها بالفرنسية، بيد أنها أشادت كثيرا بالأمازيغية التي تشربت من نسغها. محمد خير الدين نباش ممتاز في الهوية الأمازيغية، أعماله الروائية والشعرية ما هي إلا ترانيم مستوحاة من الثقافة الأمازيغية التي ألهمته عبقريته ونبوغه وجمالية إبداعه».
في الستينيات من القرن الماضي، غادر محمد خير الدين المغرب في اتجاه فرنسا، وعاش هناك حتى بداية الثمانينيات بعد 14 سنة من الاغتراب. وطيلة المدة التي قضاها بمنفاه الباريسي الاختياري، كان وجدانه غير غائب عن وطنه الذي التصق بجلده وانفرد بحصة الأسد في قصائده الشعرية ورواياته.
لم يكن محمد خير الدين سوى موظف بسيط بصندوق الضمان الاجتماعي عندما قرر المغادرة في اتجاه بلاد الأنوار بحثا عن مزيد من حرية الكتابة، فقد كان يتصور أن الإبداع الحقيقي والهادف لا يكون وصاحبه مجرد من الحرية، فهو يعتبر أن الحرية ثورة جامحة مناقضة للصمت ـ على حد تعبيره ـ لذلك نجده يشبه الحرية بشجرة أركان الراسخة والمعمرة.
ويقدر خير الدين إلى حد بعيد مدى جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق المثقف ـ باعتباره محرك المجتمع ـ تجاه وطنه ومواطنيه، فالمثقف الفعلي ـ من وجهة نظره ـ هو الذي يكون باستمرار في حالة تواصل واتصال بقضايا وطنه ومواطنيه، وهو يقول في هذا الصدد في مقال له منشور بالعدد 154 من مجلة «مواقف» الصادرة بباريس، عنوانه: «الكتاب المغاربة باللغة الفرنسية والوضع الحرج»، يقول موجها كلامه إلى زمرة المثقفين الذين يهجرون بلدانهم ولا يعودون: «لماذا يتهرب إذن بعض كتابنا؟ لماذا يرفضون المهمة الصعبة ومواجهة الواقع في بلادهم؟ هل ينسون أنهم لن يكونوا شيئا دون الألوان والأصوات المتعددة ودون الرجال والنساء والتضاريس والسماء والنبات والحيوان في بلادهم؟ عليهم أن ينظروا إلى هذا عن كثب، وإلا فإنهم سوف يظلون إلى الأبد مهرجين وأشباح حنين مضى عهده لا تعرف له الأجيال الصاعدة معنى».
وقد ضرب المثل بغابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب، والذي انتهى به الأمر بعد ضياعات طويلة ومحن عديدة إلى أن يعود إلى وطنه الأم كولومبيا.
ولج محمد خير الدين الحياة الأدبية ولوجا رسميا بإصداره لروايته الأولى «أكادير»، ومن ثمة راهن على غمار النشر ودخل إليه من بابه الواسع، ما بين نثر وشعر تتوزع أعماله المنشورة.
صدر له عن دار النشر الفرنسية لوسوي ما يلي:
Agadir- Corps négatif- Histoire d’un bon dieu- Soleil arachnide- Moi l’aigre- Le déterreur- Une odeur de mantèque- Une vie un rêve un peuple toujours errants- Légende et vie d’Agounchich- Ce Maroc.
وصدر له عن دار Le cherche- midiالديوان الشعري: «Mémorial « .
وعن دار الستوكي المغربية، صدر له ديوان شعري بعنوان: Résurrection des fleurs sauvages.
«أكادير»، أولى رواياته، كتبها بعد مجيئه لفرنسا، فقد كان مسؤول صندوق الضمان الاجتماعي في الجنوب، وبالضبط في أكادير، والرواية الحاملة اسم المدينة المنكوبة بعد الزلزال، «تدمرت» فيها كل الجسور بين أنواع الكتابة مما حدا بصاحبها بتشبيهها بتقرير بوليسي محض، وهذا ما حاول فعله لاحقا في كافة أعماله، من التقرير إلى الشعر والرواية وحتى النقد السياسي… ويصف باكورة رواياته قائلا: «إنها حالة مفتوحة على نافذة الشعر وكفى».
دسامة أعماله وقوتها الإبداعية وثقلها اللغوي النادر، أمور جعلت الجريدة السويسرية Le matin تتنبأ بأن أعماله ستقرأ بنهم واهتمام شديدين من لدن قراء القرن الواحد والعشرين. وهذا ما بدأنا نلمسه في الآونة الأخيرة.
يشتغل محمد خير الدين كثيرا على المتخيل الشعبي المغربي، وقد اعتبر أحد النقاد أن أكادير تعد جزء من سيرته الذاتية إذ يكثر فيها ضمير المتكلم وتعتمد تقنية المونولوك. ونجده في روايته أسطورة وحياة أكونشيش، الصادرة سنة 1984 والتي تعد – بحق- بمثابة وثيقة تاريخية، جغرافية، سياسية، حبلى بالوقائع الاجتماعية والاقتصادية… كل ذلك على لسان بطل الرواية، لحسن أكونشيش، الرجل القوي البنية، المتسم بالبلادة اللامنتهية، الموقع لنفسه في ثغرات فادحة ينسجها بيديه كلتيهما.
لقد وصفت هذه الرواية من قبل النقاد، أنها تمثل نوعا آخر من عودة محمد خير الدين ككاتب وإنسان بالدرجة الأولى، إلى جذوره الأصلية الأمازيغية ومعشوقته سوس. فيها قرر بطلها الإنسان القروي، بعد موت بغلته الجميلة والشابة التي يتجول بها، دفن أسلحته إلى جانبها وركوب شاحنة مهترئة متجهة إلى الدار البيضاء لينضم إلى رفاقه إبودرارن هناك. الحكاية هاته، توحي وكأن خير الدين قرر دفن قلمه الروائي والاهتمام أكثر بقلمه الشعري.
الرواية في شكلها العام موسوعة، حاول الكاتب عبرها سرد جانب مهم من تاريخ سوس وأهله وعاداتهم وفنونهم وأساطيرهم، متحدثا عن الرايس المبدع الحاج بلعيد ومجموعتي أوسمان وإزنزارن الفنيتين، وعن الزاوية السملالية وأشياخ سوس كسيدي حماد أوموسى ولالا تعزا تاسملالت، والزاوية الدرقاوية ومريديها ومواسمها، وحيوانات ونباتات وحشرات المنطقة حتى. كما تناول أنماط المعيشة وحروف تيفيناغ وأصولها التاريخية. في كلمة واحدة، لقد تمكن من رسم صورة عامة لمنطقة الجنوب المغربي هي ما بين «الجيولوجيا والميتافيزيقيا» كما علق بذلك هو ذاته. يقول عن هذه الرواية: «حين عدت إلى المغرب، أردت أن أكتب، وصارحت أمي بذلك. فقالت: لم لا تكتب حكاية أكونشيش؟ وروت لي حكايته التي كنت سمعتها وأنا صغير فهو قريب لي عبر عائلة أمي».
إن هذه الرواية ملحمة تاريخية بكل امتياز، مليئة بحقائق تاريخية مثيرة مهملة في تاريخ سوس، فيها تنعدم المخيلة، وإنما يحضر التاريخ، وفي كل كتب خير الدين، التاريخ يلعب دورا. وفي هذا العمل الروائي كان للتاريخ الدور الكبير، إذ اشتغل عليه خلال أربع سنوات وزيادة، حقق في الشخصية سنتين، واستمر في الكتابة سنتين. وقد حصر القصة في مرحلة صعبة من تاريخ المغرب، إنها مرحلة الانشقاقات ـ كما يقول- أي الفترة الممتدة ما بين 1930 و 1934 حيث كان كل زعيم قبيلة في الجنوب قد أصبح حاكما لمنطقته، أو كان يحاول أن يكون كذلك.
عن .http://www.imezran.com/mountada/viewtopic.php?t=381&view=next&sid=f04e4466f5b782ff772bd170a51bc867